فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل: هم الحفظة كما قال تعالى: {وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق: 21] {وَقُضِىَ بَيْنَهُم بالحق وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} أي: وقضي بين العباد بالعدل، والصدق، والحال أنهم لا يظلمون، أي: لا ينقصون من ثوابهم، ولا يزاد على ما يستحقونه من عقابهم {وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ} من خير، وشرّ {وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} في الدنيا لا يحتاج إلى كاتب، ولا حاسب، ولا شاهد، وإنما وضع الكتاب، وجيء بالنبيين، والشهداء لتكميل الحجة، وقطع المعذرة.
ثم ذكر سبحانه تفصيل ما ذكره من توفية كل نفس ما كسبت، فقال: {وَسِيقَ الذين كَفَرُواْ إلى جَهَنَّمَ زُمَرًا} أي: سيق الكافرون إلى النار حال كونهم زمرًا، أي: جماعات متفرّقة بعضها يتلو بعضًا.
قال أبو عبيدة، والأخفش: زمرًا جماعات متفرّقة بعضها إثر بعض، ومنه قول الشاعر:
وترى الناس إلى أبوابه ** زمرًا تنتابه بعد زمر

واشتقاقه من الزمر، وهو: الصوت، إذ الجماعة لا تخلو عنه {حَتَّى إِذَا جَاءوهَا فُتِحَتْ أبوابها} أي: فتحت أبواب النار، ليدخلوها، وهي: سبعة أبواب، وقد مضى بيان ذلك في سورة الحجر {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا} جمع خازن نحو سدنة، وسادن {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنكُمْ} أي: من أنفسكم {يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءايات رَبّكُمْ} التي أنزلها عليهم {وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هذا} أي: يخوّفونكم لقاء هذا اليوم الذي صرتم فيه، قالوا لهم هذا القول تقريعًا، وتوبيخًا، فأجابوا بالاعتراف، ولم يقدروا عل الجدل الذي كانوا يتعللون به في الدنيا لانكشاف الأمر، وظهوره، ولهذا قالوا {بلى} أي: قد أتتنا الرسل بآيات الله، وأنذرونا بما سنلقاه {ولكن حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب عَلَى الكافرين} وهي: {لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13] فلما اعترفوا هذا الاعتراف قيل {ادخلوا أبواب جَهَنَّمَ} التي قد فتحت لكم؛ لتدخلوها.
وانتصاب {خالدين} على الحال، أي: مقدّرين الخلود {فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين} المخصوص بالذمّ محذوف، أي: بئس مثواهم جهنم، وقد تقدّم تحقيق المثوى في غير موضع.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {لَهُ مَقَالِيدُ السموات والأرض} قال: مفاتيحها.
وأخرج أبو يعلى، ويوسف القاضي في سننه، وأبو الحسن القطان، وابن السني، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن عثمان بن عفان قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله: {لَّهُ مَقَالِيدُ السماوات والأرض} فقال لي: «يا عثمان لقد سألتني عن مسألة لم يسألني عنها أحد قبلك، مقاليد السموات، والأرض: لا إله إلاّ الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، وأستغفر الله الذي لا إله إلاّ هو، الأوّل، والآخر، والظاهر، والباطن، يحيي، ويميت، وهو حيّ لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيءٍ قدير»، ثم ذكر فضل هذه الكلمات.
وأخرجه ابن مردويه عن ابن عباس، عن عثمان قال: جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: أخبرني عن مقاليد السماوات، والأرض، فذكره.
وأخرجه الحارث بن أبي أسامة، وابن مردويه عن أبي هريرة، عن عثمان.
وأخرجه العقيلي، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عمر، عن عثمان.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس: أن قريشًا دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطوه مالًا، فيكون أغنى رجل بمكة، ويزوّجوه ما أراد من النساء، ويطأون عقبه، فقالوا له: هذا لك يا محمد، وتكفّ عن شتم آلهتنا، ولا تذكرها بسوء.
قال: «حتى أنظر ما يأتيني من ربي» فجاء بالوحي: {قُلْ يا أَيُّهَا الكافرون} [الكافرون: 1] إلى آخر السورة، وأنزل الله عليه: {قُلْ أَفَغَيْرَ الله تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ أَيُّهَا الجاهلون} إلى قوله: {مّنَ الخاسرين}.
وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن ابن مسعود قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد إنا نجد أن الله يحمل السماوات يوم القيامة على أصبع، والشجر على أصبع، والماء والثرى على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، فيقول: أنا الملك، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقًا لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ والأرض جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة} وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما من حديث أبي هريرة، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يقبض الله الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض؟» وفي الباب أحاديث، وآثار تقتضي حمل الآية على ظاهرها من دون تكلف لتأويل، ولا تعسف لقال وقيل.
وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رجل من اليهود بسوق المدينة: والذي اصطفى موسى على البشر، فرفع رجل من الأنصار يده، فلطمه، فقال: أتقول هذا وفينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «قال الله: {وَنُفِخَ في الصور فَصَعِقَ مَن في السموات وَمَن في الأرض إِلاَّ مَن شَاء الله ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} فأكون أوّل من يرفع رأسه، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أرفع رأسه قبلي، أو كان ممن استثنى الله».
وأخرج أبو يعلى، والدارقطني في الإفراد، وابن المنذر، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في البعث عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {إِلاَّ مَن شَاء الله} قال: «هم الشهداء متقلدون أسيافهم حول عرشه تتلقاهم الملائكة يوم القيامة» الحديث.
وأخرجه سعيد بن منصور، وعبد بن حميد من أقوال أبي هريرة.
وأخرج الفريابي، وابن جرير، وأبو نصر السجزي في الإبانة، وابن مردويه عن أنس: أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: {إِلاَّ مَن شَاء الله} فقال: «جبريل، وميكائيل، وملك الموت، وإسرافيل، وحملة العرش» وأخرج ابن المنذر عن جابر في قوله: {إِلاَّ مَن شَاء الله} قال: موسى، لأنه كان صعق قبل.
والأحاديث الواردة في كيفية نفخ الصور كثيرة.
وأخرج عبد بن حميد، عن ابن عباس في قوله: {وَجِىء بالنبيين والشهداء} قال: النبيين الرسل، والشهداء الذين يشهدون لهم بالبلاغ ليس فيهم طعان، ولا لعان.
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عنه في الآية قال: يشهدون بتبليغ الرسالة، وتكذيب الأمم إياهم. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا} الكفار يُسَاقُون إلى النارعنفًا، والمؤمنون يُسَاقون إلى الجنة لُطْفًا؛ فالسَّوَقُ يجمع الجنسين ولكن شتان بين سَوْقٍ وسَوْق!
فإذا جاء الكفارُ قابلهم خَزَنَةُ النار بالتوبيخ والعتاب والتأنيب؛ فلا تكريمَ ولا تعظيم، ولا سؤال ولا استقبال بل خِزْيٌ وهونٌ، ومن كل جنسٍ من العذاب ألوان. اهـ.

.تفسير الآيات (73- 75):

قوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما ذكر أحوال الكافرين، أتبعه أحوال أضدادهم فقال: {وسيق} وسوقهم إلى المكان الطيب يدل على أن موقفهم كان طيبًا لأن من كان في أدنى نكد فهيئ له مكان هنيء لا يحتاج في الذهاب إليه إلى سوق، فشتان ما بين السوقين! هذا سوق إكرام، وذاك سوق إهانة وانتقام، وهذا لعمري من بدائع أنواع البديع، وهو أن يأتي سبحانه بكلمة في حق الكفار فتدل على هوانهم بعقابهم، ويأتي بتلك الكلمة بعينها وعلى هيئتها في حق الأبرار فتدل على إكرامهم بحسن ثوابهم، فسبحان من أنزله معجز المباني، متمكن المعاني، عذب الموارد والمثاني.
ولما كان هذا ليس لجميع السعداء بل للخلص منهم، دل على ذلك بقوله: {الذين اتقوا} أي لا جميع المؤمنين {ربهم} أي الذين كلما زادهم إحسانًا زادوا له هيبة، روى أحمد وأبو يعلى وابن حبان في صحيحه عن أبي سعيد رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يومًا كان مقداره خمسين ألف سنة، فقيل: ما أطول هذا اليوم؟ قال النبي- صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون عليه أخف من صلاة مكتوبة» وروى الطبراني وابن حبان في صحيحه عن عبد الله بن عمرو- رضى الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تجتمعون يوم القيامة» فذكر الحديث حتى قال: «قالوا: فأين المؤمنون يومئذ؟ قال: توضع لهم كراسي من نور ويظلل عليهم الغمام يكون ذلك اليوم أقصر على المؤمنين من ساعة من نهار» ويمكن أن يكون السوق إشارة إلى قسر المقادير للفريقين على الأفعال التي هي أسباب الدارين {إلى الجنة زمرًا} أهل الصلاة المنقطعين إليها المستكثرين منها على حدة، وأهل الصوم كذلك إلى غير من الأعمال التي تظهر آثارها على الوجوه.
ولما ذكر السوق، ذكر غايته بقوله: {حتى إذا جاءوها} ولما كان إغلاق الباب عن الآتي يدل على تهاون به، وفي وقوفه إلى أن يفتح له نوع هوان قال: {وفتحت} أي والحال أنها قد فتحت {أبوابها} أي إكرامًا لهم قبل وصولهم إليها بنفس الفتح وبما يخرج إليهم من رائحتها، ويرون من زهرتها وبهجتها، ليكون ذلك لهم سائقًا ثانيًا إلى ما لم يروا مثله ولا رأوا عنه ثانيًا.
ولما ذكر إكرامهم بأحوال الدار، ذكر إكرامهم بالخزنة الأبرار، فقال عطفًا على جواب إذا بما تقديره: تلقتهم خزنتها بكل ما يسرهم: {وقال لهم خزنتها} أي حين الوصول: {سلام عليكم} تعجيلًا للمسرة لهم بالبشارة بالسلامة التي لا عطب فيها.
ولما كانت دارًا لا تصلح إلا للمطهرين قالوا: {طبتم} أي صلحتم لسكناها، فلا تحول لكم عنها أصلًا، ثم سببوا عن ذلك تنبيهًا على أنها دار الطيب، فلا يدخلها إلا مناسب لها، قولهم: {فادخلوها} فأنتج ذلك {خالدين} ولعل فائدة الحذف لجواب إذا أن تذهب النفس فيه من الإكرام كل مذهب وتعلم أنه لا محيط به الوصف، ومن أنسب الأشياء أن يكون دخولهم من غير مانع من إغلاق باب أو منع بواب، بل مأذونًا لهم مرحبًا بهم إلى ملك الأبد.
ولما كان التقدير: فدخلوها، عطف عليه قوله: {وقالوا} أي جميع الداخلين: {الحمد} أي الإحاطة بأوصاف الكمال، وعدلوا إلى الاسم الأعظم حثًا لأنفسهم على استحضار جميع ما تمكنهم معرفته من الصفات فقالوا: {لله} أي الملك الأعظم {الذي صدقنا وعده} في قوله تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيًا فطابق قوله الواقع الذي وجدناه في هذه الساعة {وأورثنا} كما وعدنا {الأرض} التي لا أرض في الحقيقة غيرها وهي أرض الجنة التي لا كدر فيها بوجه وفيها كل ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، بأن جعل حالنا فيها في تمام الملك وعدم التسبب في الحقيقة فيه حال الوارث الذي هو بعد موروثه ولا شيء بعده ولا منازع له حال كوننا {نتبوأ} أي نتخذ منازل هي أهل لمن خرج منها أن يشتهي العود إليها، وبينوا الأرض بقولهم في موضع الضمير: {من الجنة} أي كلها {حيث نشاء} لاتساعها فلا حاجة لأحد فيها أن ينازع أحدًا في مكان أصلًا، ولا يشتهي إلا مكانه.
ولما كانت بهذا الوصف الجليل، تسبب عنه مدحها بقوله: {فنعم} أجرنا- هكذا كان الأصل، ولكنه قال: {أجر العاملين} ترغيبًا في الأعمال وحثًا على عدم الاتكال.
ولما ذكر سبحانه الذين ركب فيهم الشهوات، وما وصلوا إليه من المقامات، أتبعهم أهل الكرامات الذين لا شاغل لهم عن العبادات، فقال صارفًا الخطاب لعلو الخبر إلى أعلى الخلق أنه لا يقوم بحق هذه الرؤية غيره: {وترى} معبرًا بأخص من الإبصار الأخص من النظر كما بين في البقرة في قوله تعالى: {وإن القوة لله جميعًا} [البقرة: 165] {الملائكة} القائمين بجميع ما عليهم من الحقوق {حافين} أي محدقين ومستديرين وطائفين في جموع لا يحصيها إلا الله.
من الخف وهو الجمع، والحفة وهو جماعة الناس، والأعداد الكثيرة، وهو جمع حاف، وهو الواحد من الجماعة المحدقة.
ولما كان عظيم الشيء من عظم صاحبه، وكان لا يحيط بعظمة العرش حق الإحاطة إلا الله تعالى، أشار إلى ذلك بإدخال الجاز فقال: {من حول العرش} أي الموضع الذي يدار فيه به ويحاط به منه، من الحول وهو الإحاطة والانعطاف والإدارة.
محدقين ببعض أحفته أي جوانبه التي يمكن الحفوف بها بالقرب منها يسمع لحفوفهم صوت بالتسبيح والتحميد والتقديس والاهتزاز خوفًا من ربهم، فإدخال {من} يفهم أنهم مع كثرتهم إلى حد لا يحصيه إلا الله، لا يملؤون ما حوله، حال كونهم {يسبحون بحمد} وصرف القول إلى وصف الإحسان مدحًا لهم بالتشمير لشكر المنعم وتدريبًا لغيرهم فقال: {ربهم} أي يبالغون في التنزيه عن النقص بأن يتوهم متوهم أنه محتاج إلى عرش أو غيره، وأن يحويه مكان متلبسين بإثبات الكمال للمحسن إليهم بإلزامهم بالعبادة من غير شاغل يشغلهم، ولا منازع من شهوة أو حظ يغفلهم، تلذذًا بذكره وتشرفًا بتقديسه، ولأن حقه إظهار تعظميه على الدوام كما أنه متصل الإنعام.
ولما تقدم ذكر الحكم بين أهل الشهوات بما برز عليهم من الشهادات، ذكر هنا الحكم بينهم وبين الملائكة الذين فاضوا في أصل خلقهم بقولهم {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} الآية فقال: {وقضى بينهم} أي بين أهل الشهوات وأهل العصمة والثبات.
ولما كان السياق عامًا في الترغيب والترهيب عدلًا وفضلًا، بخلاف سياق سورة يونس عليه السلام، قال: {بالحق} بأن طوبق بما أنزلنا فيهم في الكتب التي وضعناها لحسابهم الواقع، فمن طغى منهم أسكناه لظى بعدلنا، ومن اتقى نعمناه في جنة المأوى بفضلنا، لجهادهم ما فيهم من الشهوات حتى ثبتوا على الطاعات، مع ما ينزعهم من الطبائع إلى الجهالات، وأما الملائكة فأبقيناهم على حالهم في العبادات: {وقيل} أي من كل قائل: آخر الأمور كلها {الحمد} أي الإحاطة بجميع أوصاف الكمال، وعدل بالقول إلى ما هو حق بهذا المقام فقال: {لله} ذي الجلال والإكرام، علمنا ذلك في هذا اليوم عمل اليقين كما كنا في الدنيا نعلمه علم اليقين.
ولما كان ذلك اليوم أحق الأيام بمعرفة شمول الربوبية لاجتماع الخلائق وانفتاح البصائر وسعة الضمائر، قال واصفًا له سبحانه بأقرب الصفات إلى الاسم الأعظم: {رب العالمين} أي الذي ابتدأهم، أولًا من العدم وأقامهم ثانيًا بما رباهم به من التدبير، وأعادهم ثالثًا بعد إفنائهم بأكمل قضاء وتقدير، وأبقاهم رابعًا لا إلى خير، فقد حقق وعده كما أنزل في كتابه وصدق وعيده لأعدائه كما قال في كتابه، فتحقق أنه تنزيله، فقد ختم الأمر بإثبات الكمال باسم الحمد عند دخول الجنان والنيران كما ابتدأ به عند ابتداء الخلق في أول الإنعام، فله الإحاطة بالكمال في أن الأمر كما قال كتابه على كل حال، فقد انطبق آخرها على أولها بأن الكتاب تنزيله لمطابقة كل ما فيه للواقع عندما يأتي تأويله، وبأن الكتاب الحامل على التقوى المسببة للجنة أنزل للإبقاء الأول، فمن أتبعه كان له سببًا للإبقاء الثاني، وهذا الآخر هو عين أول سورة غافر فسبحان من أنزله معجزًا نظامه، فائتًا القوى أول كل شيء منه وختامه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وأهل بيته الطيبين الطاهرين وصحابته أجمعين. اهـ.